التعقيد، شبكة قراءة للعالم المعاصر

التعقيد، شبكة قراءة للعالم المعاصر

رضا بنكيران

 

إنه لمن الصعب تعريف التعقيد بصورة دقيقة. إن لهذا المفهوم، مثل مفاهيم الحياة، والذكاء، والثقافة عديد التعريفات الممكنة. لذلك يمكننا الاقتراب منه عبر ذكر ما ليس هو، أو محاولة حصر التعريف عن طريق "أمثلته" بألف طريقة، لأننا نستطيع التعرف عليه كلما التقيناه في الظواهر الطبيعية والثقافية المتعددة. إنه لمن المبتذل اليوم أن نلاحظ إلى حدّ ما أن عالمنا يتميز بالتعقيد. وللإجابة عن السؤال حول ما إذا كان الأمر كذلك في القرن التاسع عشر أو حتى قبل ذلك، فإننا نميل إلى الإجابة بالنفي. وللإشارة فإننا نرى وبصورة حدسية أن المصطلح يصف تطور المجتمعات المعاصرة ويصف مستقبل العلوم، والاقتصاد السياسي، والثقافة….

فالاشتقاق اللفظي للكلمة يحيل إلى الكلمة اللاتينية "complexus" المشتقة بدورها من "complexum"، وأيضا من complecti وهي تعني "حوى". فالجدر "complexus" يعبّر عن فعل الاحتواء، فعل التشابك والإنعطاف. المؤشر الأول: نحن هنا في مجال الصنع من النسيج والتشبيك، في ابيستيمية الانكسار وتضاعف الانعطافات (multi-pli-cation ) والعلاقة التضمينية (im-pli-cation ) أكثر مما هي في مجال تقطيع وتشريح المجموع إلى أجزاء أساسية. لكن ثمة فرق أول: فالتعقيد "complexus "، لا يعني التعقّد ( من اللاتينية: complectio). إن نسج أشياء مع بعضها ( بحسب عبارة إدغار موران) ليس تجميعا معقّدا لأشياء أولية أكثر. فالسيارة والساعة الحائطية ( نتكلم عن حركة معقدة) والتلفاز هي بالأكيد أجهزة معقدة، لكن يمكن تفصيلها وإعادة تجميعها ضمن مجموعة من القطع. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للجسم الحي الذي يبقى معقدا بما يفوق قدرتنا على الفهم حاليا وبما يفوق الحساب الذي يتوفر لدينا الآن: فإذا ما تمكنا من فصله إلى مكوناته الأصلية فإنه لا يمكننا إرجاعه إلى حالته الأولى انطلاقا من مكوناته الأصلية التي تتميز بالبساطة والاستقلالية. فنحن لا نتمكن بذلك من تركيب الحياة وصنع جسم حي انطلاقا من المكونات الأساسية.

يوحي التعقيد إذا بتشوش الأحداث التي تنتجه، وبتشابك العناصر المكونة له. فكل "ما ينسج مع بعض" يكشف عن كلٍ يختلف تنظيمه وخصوصياته وخاصياته مع مجموع مكوناته الأصلية. وفيما يتعلق بمستوى العلاقة مع المعرفة، لم نعد نتموقع ضمن منهجية العلم الكلاسيكي التي تسعى إلى عزل أجزاء لمنظومة ما حتى يتمكن من تحليلها بشكل أفضل. فدراسة التعقيد لم تعد تتطلب تخصص المعارفة بل تتطلب إعادة هيكلة هذه المعارف حول ظواهر أكثر اتساعا من تلك الاختصاصات التي تدرسها. فالتعقيد لا يحيل فقط إلى ظواهر تميزت بتنظيم وديناميكية خصوصية، بل يحيل أيضا إلى إنتاج أدوات مفاهيمية قادرة على التعامل مع المعارف المتفرعة عن اختصاصات علمية مختلفة. وفي نفس السياق نفهم بشكل أفضل السبب الذي يجعل من مقاربات الاختصاصات المتداخلة والمتعددة والمفارقة مطلوبة اليوم لتجاوز التخصص المفرط الذي جرّ العلماء إلى"معرفة أكبر حول أشياء أقل".

ويمكننا في هذا المستوى أن نقترح تعريفا خاصا بمفهوم التعقيد وذلك بإعطاء أمثلة عليه. إن قسما بأكمله من الظواهر المنبثقة (الآخذة في الظهور) تنحو إلى إثبات وحدة البيولوجيا والفيزياء إلى جانب إثبات التفاعل بين العلوم المسماة "شديدة" وتلك التي تعتبر"رخوة". فالأمر يهم منظومات معقدة وديناميكية، كالاضطرابات المناخية والأمراض الوبائية والجينات ولخلايا العصبية ونظام المناعة والحشرات الاجتماعية والثقافات الإنسانية والأنظمة البيئية وشبكات الاتصال والأسواق المالية والتطور الكوني…الخ. فما هو إذا الموضوع الأكثر تعقيدا في هذا الكون؟ إنه جسم رخو، مادة مفكرة تزن ما يقارب الألف والخمسمائة غرام: فالدماغ البشري هو الذي يبقى ذو تعقيد لا يقاس، لأنه نتاج لتطور تواصل على مدى مائة مليون سنة ويتوفر على مئة إلى مائتي مليار خلية عصبية، وتبلغ الأربطة بين خلاياه الذهنية مائة مليون متر. إن مثال الدماغ يمكن أن يعتبر نموذجيا: إننا نعرف كيف تعمل كل خلية عصبية فيه، ولكننا نجهل كيف تنتج هذه الأخيرة بشكل جماعي الذكاء والوعي. فمن خلال هذا المثال ذي الدلالة الفائقة والذي لا يمكن التشكيك في علميته يظهر أن التعقيد يبلغ منتهاه في الإنسان وفي المجتمع. فالإنسانية بمعنى التطور غير الخطي تعرف تعقيدا يفوق ذلك التعقيد الذي يعرفه النمل أو الإنسان الآلي ذو الخلايا.

محاولة تقديم تعريف

من خلال بعض الأمثلة المذكورة نستطيع تتبع ثلاثة خاصيات نمودجية لظواهر مختلفة جدا باختلاف الانهيارات الثلجية عن الموجات الزمكانية الكيميائية. إن ظاهرة ما تعتبر معقدة عندما تمتلك خاصيات اللاخطية والظهور والتطور. بداية تشير اللاخطية إلى ظواهر لم تكن الأسباب فيها والنتائج متناسبة، أي أن أسبابا صغيرة فيها يمكن أن يكون لها آثار كبيرة. تخص اللاخطية المنظومات التي لا تتبع القواعد البسيطة للجمع وتنتج نتائج غير متوقعة.

أما في خصوص الظهور فهو يعني ظواهر يكون "يكون الكل فيها أكثر من مجموع الأجزاء"، بمعنى أن معرفة الأجزاء لا تكفي لاستخلاص معرفة الكل. نحن هنا نتحدث عن دراسة مجموعات مركبة تكون خاصياتها غير قابلة للاختزال والاستخلاص من خصائص الأجزاء المؤلفة لها. لذا كان التحول من الماء (H2o ) من حالة السائل إلى حالة الصلب ثم إلى حالة السائل تؤثر على مستواه العياني، بينما لا يمكن رؤيته في مستوى الجزيء المفرد.

ويشير الانبثاق في العلم الكلاسيكي إلى ما يعتبر قطيعة بين المستويين الجماعي والفردي لمنظومة ما. وفي قراءة ثانية، يعلن النمو عن سببية غير خطية بين تصرف شامل معقد وقواعد موضعية هي في غالب الأحيان بدائية.

أما بالنسبة للنمو فهو يوضح الدور الأساسي للوسيط – ذي الفضل في انتشار التعقيد والمتمثل في الزمن الذي لا يمكن التراجع فيه – في تكوّن هذه الظواهر، وذلك في اتجاه التحول والشك. نجد أنفسنا هنا أمام مفهوم يخص منظومة ديناميكية يؤدي فيها تدخل عنصر ظرفي ( الحدث، التفريع، الصدفة) إلى علم المآل أكثر منه إلى علم الحال. إن علوم التعقيد التي تعنى بهذا القسم المخصوص والمنتشر جدا من الظواهر تمثل في الواقع منظومة علوم ( علم الحياة، الكيمياء، الرياضيات، الفيزياء، الإعلامية…..)، واختصاصات بحث (ذكاء اصطناعي، حياة اصطناعية، إعلامية حياتية)، ومقاربات نظرية (انبثاق، تنظيم إرادي….)، وتقنيات ( رجل آلي مكون من خلايا، شبكة خلايا عصبية، حساب جيني )، ونماذج وصفية ( وسط قابل للتهيج، كتلة الرمل، وسط تطوري، ذكاء سرب النحل) ومفاهيم ( أثر الإرتجاع، الحساسية للشروط الأولية، حافة الفوضى، مؤثرات الجذب، الانعطافات، النقدية المنظمة اراديا….).

فالحياة الاصطناعية مثلا هي حقل جديد للمعرفة العلمية أين تستطيع النمذجة الإعلامية إبراز إحيائية عامة عامة متحررة من كيمياء الكربون الذي يميز حياة الكائن الحي فوق الأرض. إن تجارب الحياة الاصطناعية تؤدي حينئذ إلى صنع كون خاص، وإلى التعريف بالقوانين الفيزيائية لهذا الكون، وإلى تركه ينمو مع ملاحظة ما يجري فيه. فتظهر بذلك كائنات رقمية تذرع محيطا داروينيا متناميا وتتصارع فيه على الموارد الضرورية للحياة والمتمثلة في المكان الذاكرة وزمن الوحدة المركزية للحاسوب . وحتى الدور المتعلق بالظرفية التنموية فإن دراسته تتم بإدخال الصدفة ضمن هذا المحيط الاصطناعي الرقمي.

وبحسب ذلك تؤدي علوم التعقيد لنمذجات نظرية لظواهر ديناميكية تتفاعل فيها عديد العناصر، ويمتزج فيها الضبط وفقدان التوازن، الظرفية والحتمية، الخلق والهدم، والنظام والفوضى، وفيها تلتقي عديد مستويات التنظيم. يهدف البحث عن صياغة النماذج إلى وصف الظواهر غير المتوقعة وغير القابلة للدمج، مثل الطقس والانترنت، وزيادة القيود، والفوضى الحتمية…الخ. وبسبب العدد الكبير من هذه المتغيرات التي تتحكم فيها، فإن دراسة هذه الأمثلة بطريقة تحليلية صعبة جدا، ويستحيل وضعها في عملية حسابية باستعمال القلم والورق، ولكن يمكن اللجوء إلى الحاسوب من أجل إخضاع التعقيد الذي يميزها إلى دراسة تجريبية. فالحاسوب بصفته الميكروسكوبية والتلسكوبية في آن يسمح بحساب التعقيد وكل النتائج "الشاذة" في الطبيعة. وفي هذا الصدد، جعل الدور المحوري للحاسوب بعض الملاحظين يرون أننا بإزاء علم من نوع ثالث ينتج معطيات وسطا بين النظري والتجريبي. والهدف يتمثل في اختلاق منظومات معقّدة والتبصر فيها، سواء تعلق الأمر بدقيقها أو بعظيمها، وتصبح النمذجة وسيلة التوصل إلى عناصر اصطناعية تعكس الأخذ في الاعتبار لأكبر عدد من المتغيرات. وكلما تطورت النمذجة ستتمكن هذه الأخيرة ستختلق عددا من إثارة مختلف المنظومات التعقّدة أو على الأقل النسخ المبسطة منها للتوصل إلى فهم التصرفات الصادرة عنها وخصائصها. وفي الأثناء، يتم إنشاء النماذج والاستعارات لوصف المنظومات التعقّدة.

إن علوم التعقّد تدرس مجموعة ديناميكية لا بتقسيمها إلى أجزاء لكن من خلال متابعة وارتداد تفاعلات مختلف الأجزاء فيما بينها. فمجموعة الروابط بين الأجزاء تمكّن من انبثاق خاصيات متميزة ( لا يمكن تعريفا إخضاعها إلى تحليل تسلسلي) تحفّز بأثر رجعي ( فعل ارتجاعي) تصرف "الكل". بذلك إذا ما رجعنا لمثال الماء فإن معرفة مكوناته لا تساعد على التوصل إلى فهم كيف يسيل في الدوامة ولا كيف يتحول من حالة الصلب إلى حالة السائل أو الحالة الغازية. إن فهما لديناميكيات الانبثاق وحده يمكن أن يساعد على الاقتراب من هذه التغييرات النوعية، وهي التغييرات التي تلحق بالأسباب أو الأنماط.

إن مقاربة علوم التعقد سمحت باكتشاف الهيكلة التعقّدة لظواهر تبدو في ظاهرها بسيطة، وبالعكس باكتشاف الهيكلة البسيطة لظواهر تبدو في ظاهرها معقدة. إن أحد أهم الخصائص مثلا لمنظومة تتميز بالفوضى هو أن تغييرًا ولو كان بالغ الدقّة الأصلية يمكنه أن يغير جوهريا السلوك العام للمنظومة. ومن هنا جاءت استعارة مثال الفراشة التي قد تسبب إعصارا بمجرد تحريك جناحيها. هناك مثال صادم آخر – لأنه معاكس للحدثي- يتمثل في دراسة نشاط الدماغ: يظهر أن التعقد الديناميكي لنشاط المخ والذي يمكن قيسه بواسطة التصوير الدماغي الكهربي، ينخفض إبان أزمات الصرع؛ إن تسجيل الصورة المذكورة يبرز جردات شديدة الانتظام تدل على سلسلة من التزامن للعمليات الدماغية. وبذلك فإن الفوضى في مستوى الديناميكية الدماغية تعني نظامًا عاديا من النشاط بينما قد يعلن نظام الموجات الدماغية عن مرض خطير.

على مشارف العلم الكلاسيكي

إن العلم الكلاسيكي الذي سيطر لمدة ثلاثة قرون كاملة، والذي مثّل منذ الفيزيائي اسحاق نيوتن ( 1642-1727) مصدر التطورات العميقة ضمن معرفة الطبيعة وسيطرة الإنسان عليها هي أساسا اختزالية وحتمية وخطية. وهو يأخذ أصوله في المثال اليوناني من العلم الكلاسيكي الذي يمجّد البحث عن جمالية البسيط، وعن التناسق والتوازن. وهو العلم الذي يصف، عبر العمليات الحسابية القائمة على استعمال القلم والقرطاس، الأسئلة الأكثر سهولة التي تطرحها الطبيعة. فيتم إجراء التجربة ضمن دراسة تبسيطية واختزالية للظاهرة الطبيعية التي تتم دراستها خاصة بعزلها عن أكبر عدد من المتغيرات وباللجوء لتفسيرها على أساس أكبر قدرنظري ممكن. هذه المنهجية سمحت من الانتقال تدريجيا إلى أسئلة أكثر صعوبة مثلت مصدر نمو العلم الحديث. فاستخلصت قواعد الطبيعة انطلاقا من دراسة الانتظام والفصول، والتوافق، وعدم التغير، والتناظر الموجود في الطبيعة. وبحسب هذه النظرة العلمية تكون الطبيعة قابلة للتوقع بواسطة المعادلات. لذلك يصف الحساب التفاضلي الذي إبتدعه الفزيائي الانقليزي نيوتن والفيلسوف الألماني لايبنتز ( 1646-1716) التغييرات المتواصلة لجسم في حالة حراك كوصف سرعته الفورية. إن معرفة حالة جسم في لحظة ما تسمح بمعرفة ماضيه ومستقبله. فالمعادلات التفاضلية تتسابق نحو زمن قابل للتغيير (حيث يتساوى المستقبل بالماضي وحيث لا يوجد بالنتيجة سهم للزمن). إن التصور الخطي للعلم الكلاسيكي الذي يتضمنه الحساب الشامل إلى جانب مواد أخرى يتميّز بالقول بردة الفعل إزاء كل فعل، وبأن نفس الأسباب تنتج نفس الآثار (أي أن الأسباب المشابهة تفرز نتائج مشابهة). وتتميز السببية الخطية بقدرتها على جعل المنظومات قابلة للتوقع. إذ أن معرفة الشروط الأصلية تتحكم في تلك المتعلقة بالشروط النهائية. كما أن معرفة ماضي المنظومة يمكّن من توقع مستقبلها.

إن شيطان لابلاص الذي يحمل اسم عالم الرياضيات والفيزيائي والفلكي الفرنسي (1749-1827) يعبر عن تصوّر لكون حتمي، وهو تصور غلب على عصره. إن لابلاص يقترح تجربة لفكرة تضع على الساحة جنيّا قادرا على قراءة الماضي والمستقبل :"ذكاءٌ يعرف في لحظة معينة كل القوى التي تتوفر عليها الطبيعة، والوضعية التي تكون عليها كل من الكائنات التي تؤلفها؛ وإذا ما كان له من الاتساع ما يسمح له بإخضاع كل هذه المعطيات إلى التحليل، سيجمع ضمن نفس القاعدة حركات أكبر الأجسام الموجودة في الكون إلى جانب أجسام الذرات الخفيفة: لا يمكن لأي شيء أن يكون غير مؤكد بالنسبة لها، والمستقبل كما الماضي سيكونان حاضرين لديها ".

وإذا ما عكس شيطان لابلاص التصوّر العلمي الغالب في القرن التاسع عشر، فإن نظرية الفوضى الحتمية المكتشفة لأول مرة من قبل عالم الرياضيات هنري بوانكاري، ثم من بعدها الفيزياء الكمية قد وضعتا موضع شك ما تضمنته الحتمية من أن معرفة الشروط الأولية لمنظومة ما تؤدي إلى معرفة شروطها الختامية. إن فكرة التعقّد بدأت في الظهور باحتشام وبشكل تدريجي أثناء القرن الواحد والعشرين لما توصل العلماء إلى وصف أنشطة قوانين الطبيعة التي ترفع اللثام عن تميّز وكسور في التناظر وظواهر خطيرة.

وكلما تطور علم نيوتن وانتشرت أنظمته الفكرية المسيطرة، تبيّن للعلماء أن مجموع الأسئلة البسيطة حول الطبيعة آخذة في الانحسار. وسيتم بالتدريج اكتشاف أن مبادئ التماثل والانتظام والتناظر…لا تمثل إلا مجموعة صغرى لأسباب أو نمادج تستعملها الطبيعة، وأن لهذه الأمثلة ميزة كونها أشياء مثالية تُستَعمَلُ في حدها الأقصى لكي يتم هيكلتها وإدماجها وحسابها، على أن التحدي الحقيقي أمامها يبقى في الأخذ بها ونمذجتها وتأويل الطبيعة ضمن سلم لا ينضب من الظواهر التي تصدر عنها من جهة النوع والتنوع. فكيف يمكن التعبير علميا عن الانفجار أو الانقراض الجماعي للكائنات الحية (9,99 من أنواع الكائنات الحية التي وجدت في السابق عرفت طريقها إلى الانقراض)، وكيف يمكن التعبير عن مرور الزمن، وعن إيقاعات الحياة (دقات القلب أو صدمات الخلايا العصبية)، عن هيكلة الرئة، والبقع التي على جلد الفهد، وطيران أسراب الطيور، ومسار الصاعقة، وانطلاق الفيضان، والعاصفة الثلجية أو الزلزال؟ هل كل هذه الأحداث التي تجري في الطبيعة يمكن استخلاصها من القوانين الخاصة بهذه الأخيرة؟

نحو مزيد من تعقّد المكان والزمان

ستتأثر عديد ميادين العلوم بهذه الاكتشافات "المتأخرة"، وهي غالبا ما تكون غير حدسية لظواهر مادية أو إحيائية قابلة جزئيا أو بصعوبة للوضع ضمن معادلة كلاسيكية. لكن هناك أحد الميادين التي سيكون فيها التغيير مزلزلا: الهندسة. لقد ظنناّ طيلة خمسة عشر قرنا أن لا هندسة خارج الهندسة الاقليدية، أي تلك التي تثبت بديهيات اقليدس كما عبر عنها في كتابه "العناصر". يخص الأمر يخص بالتحديد البديهية الخامسة لاقليدس المتعلقة بتوازي المستقيمين ( الخط المستقيم هو أقرب مسلك بين نقطتين ) والتي سيتم التشكيك فيها باكتشاف علوم الهندسة غير الاقليدية. ففي علوم الهندسية المنحنية ذات نوع الدائري تلتقي كل الخطوط المستقيمة، بينما لا يلتقي كثير منها في الهندسة ذات النوع البيضوي الشكل. وبذلك فقد كان اكتشاف العلوم الهندسية غير الاقليدية – التي لا تثبت فيها بديهية اقليدس المتعلقة بالمتوازيين- من قبل عالم الرياضيات والفيزيائي والفلكي الألماني كارل فريديريش غوس ( 1777-1955) وعالم الرياضيات الروسي نيكولاي إيفانوفيتش لوباتشفسكي (1792-1856) إحدى العلامات المنبئة عن ثورة علمية. هذه المرحلة الأولى لتعقيد المكان تواصلت ضمن النظرية المتعلقة بالنسبية العامة لانشتاين (1879-1955) والتي تستند إلى الهندسة البيضوية. وفي نفس الوقت تتغذى عملية تعقيد المكان من العناصر الأولى للهندسة الكسرية المتمثلة في مقوسات كوخ وبيانو وفي غبار كونتور.

فبالنسبة للعلاقة بالزمن، كان اكتشاف التعقيد يتمّ بشكل تدريجي إلى أن يحصل على آثار هامة ضمن تطور العلم. وبحسب علم نيوتن يبقى الزمن قابلا للتوقع والحساب ويمكن إرجاعه إلى الوراء (فالماضي والمستقبل متساويان). وضمن هذه الرؤية يتجه البشر إلى الخلط بين الزمن وقياسه. ولكن التوقيتي كان دائما هو المتفوق، أي أنّ حساب الأعياد يتغلب على مدة الزمن. وبحسب رؤية انشتاين فإن الزمن مثله مثل المكان ينخرطان كمفاهيم نسبية. إن الزمن هو البعد الرابع للزمكان الذي هو بدوره إطار غير اقليدي ينحني عند الاقتراب من الكتلة. أما عن تأويلية الكميائية إليا بريقورين Ilya Prigorine (1917-2003)، فهي ترفع اللثام عبر أعمالها حول الخركة الحرارية عن الشكل النهائي للزمان الذي يسمح بتفسير ظهور التعقيد ضمن الطبيعة.

وبذلك فإن الزمن عند نيوتن قابل للارتداد، والنسبية عند انشتاين تؤدي إلى هندسة الزمن (فالزمن والمكان متساويان). أما زمن بريغورين فهو غير قابل للإرتداد. إنّه موجه ( إذ يوجد سهم للزمن، والمستقبل غير معروف سلفا) وهو يشير إلى الطاقة الخلاقة الكامنة في التطور والاحتمال.

فالزمن هو البعد الوجودي للإنسان، لكن الاشتقاق اللفظي لكلمة tempus (درجة الحرارة؛ تمالك؛ عاصفة température ; tempérer ; tempête) فهو يعني أن الزمن هو مزيج من قابلية التوقع (القيس) وعدم قابليته (الرصد الجوي)، من التواصل والقطيعة، من الخطي وغير الخطي، من الدوري والفوضوي، من الزمن والطقس، من البارد والحار، من الجاف والرطب. فالزمن مستمر وهذا هو مصدر التعقيد فيه.

وإذا كانت علوم التعقيد تعيش عصرها الذهبي في القرن الواحد والعشرين، فإن بروزها التدريجي كما رأينا قد تم بالتدريج منذ القرن التاسع عشر. وتجب الإشارة إلى أن عديد الثقافات غير الغربية تشتمل على مقاربات وتعابير خاصة بتعقّد الطبيعة، لكن هذه الأخيرة لم تعبر عن ذلك بواسطة لغة مادية-رياضية إلا منذ عهد الحاسوب. إن الثقافات الشرقية القائمة على الهندوسية والبوذية والكنفوشيوسية والإسلام ميالة إلى تقبل العالم بصفته كلا يكون للإنسان فيه دور المشارك قبل أن يكون ملاحظا. ويمكن أن نفترض أن التعقيد الذي فرض نفسه تدريجيا في فهم المكان والزمان، يمكنه في نفس الوقت أن يستعمل لفهم أحسن للثقافات ولعلاقاتها المتبادلة باعتبارها أحد أبرز موجبات الزمان والمكان عند الإنسان. عندها تبدو الظاهرة العمرانية مثلا باعثا زمكانيا يجب يجب إدراكه في عملية تعقيده المتزايد كما أنتجته آلاف السنين من النمو اللاخطّي.

حول استعارات التعقيد

إن علوم التعقيد وهي بصدد إنتاج الاستعارات التي تصف مختلف أوجه الواقع تحاول الاقتراب من صورة نوعية قليلة الاكتراث بجزئيات المردود. إنها تبحث بالأساس على مداورة المانع المتمثل في الأشجار التي تخفي الغابة. وبالنهاية فإن التعقيد هو الغابة التي نبحث عن معرفة حجمها وشكلها واتساعها ضمن حزمة التفاعلات بين مختلف الفاعلين، وكتلة العلاقات، وتشابك المستويات المتعلقة بالتنظيم، وتداحل الظواهر. عندها تبدأ علوم التعقيد باستعمال هذه الأمثلة والاستعارات ضمن مختلف الاختصاصات. وتبدأ عملية تحويل النماذج أو الاستعارات من ميدان إلى آخر للتمكن من الإمساك بنظام الظواهر. لذلك فإننا عندما نطبق استعارة الانفجار الكمبري cambrienne ( هذا الانفجار الحيواني الأولي الذي حصل منذ خمسمائة مليون سنة) مثلا على عالم الاقتصاد أو التكنولوجيا للقرن الواحد والعشرين ( الاقتصاد الجديد، أسواق مالية، مشاتل…)، فإن ذلك يعني تحويل نموذج أي استعمال استعارة تطورية لتفسير ما يحدث حاليا في عالم التكنولوجيا أو الاقتصاد.

وبصفة عامة فإن استعمال الاستعارة ضمن العلم دارج بكثرة. وحتى عند وصف الخاصية الفيزيائية "لدرجة الحرارة" ( التي تقيس الطاقة الحرارية لجسم أو لمحيط)، يلجأ العلماء لاستعارة مفهوم الارتفاع (فهي أي الحرارة "ترتفع" أو" تنخفض") لأن قياس الحرارة يتمّ بالنظر إلى درجة ارتفاع الزئبق في ميزان الحرارة. وبنمذجة التعقيد، يكون الهدف المنشود فهمه وتفسيره أكثر منها توقعه – نظرية داروين عن النشوء تخلو من كل معادلة فيزيائية-رياضية، كما أن النظريات الجيولوجية والفيزيائية الفلكية لا تمثل إطارا للتوقع-.

تملك الاستعارات الخاصة بالتعقيد بصفة عامة هذه النزعة في استنساخ بعض الظواهر الطبيعية. لذلك فإن استعارة النمل تصوّر وضع مبدإ "الكل الذي يفوق مجموع الأجزاء" موضع التنفيذ. ومن خلال عدد من التجارب التي أجريتْ على النمل تبين لنا أن التفاعل بين الأشخاص انطلاقا من قواعد التصرف البسيطة جدا ( من نوع المزدوج 1/0 ؛ نعم/لا؛ فتح / إغلاق) يولد نشاطا وتنظيما في غاية الإبهار والجدوى. لذلك إذا نمذجنا سلوك النملة التي ترسم موطئها الكيميائي (الإفراز الفرموني) حيث يوجد مصدر الغذاء، رأينا أن هذه القاعدة البسيطة تجر معها تناسقا في التصرف لدى قرية النمل كلها. "فالذكاء ضمن القطيع" الذي نجده مثلا عند النمل أو عند دود الخشب يشخّص قدرتها على القيام بحركات جماعية، هي، بحساب مستوى التعقيد، تتموضع على بُعْدِ بعض الدرجات من الإمكانات المتاحة للمكونات الأصلية. إن هذه الخاصية الجامعة تصوّر الآثار المؤثرة في الانبثاق: فالنملة إذا ما أُخِذت منفردة تميزت بالغباء، أما جماعة النمل فهي قادرة على إقامة الكنائس حتى. ومن خلال دراسة مثل هذه الكائنات البسيطة التي تساهم في صنع مجموعة معقدة، يجد مبحث الإنسان الآلي مصدر إلهامه . وانطلاقا من هذه النمذجة الإعلامية لهذه الاستعارة الخاصة بالحشرات الاجتماعية، يمكن مثلا تنمية الخوارزميات الملقبة بخوارزميات التوسع المزدوج، وذلك لإيجاد حل للمشكل المشهور المتعلق بالتاجر الرحالة، وهو الحل الذي يمكن استعماله في الآن نفسه قصد إيجاد حلول للمشاكل المتعلقة بإيصال الإرساليات عبر شبكة الإتصال. فتكنولوجيا العلم، كما نرى ذلك جيدا، تنمو ضمن وسط يقوم على الاستعارات.

أما فيما يخص العملية النقدية المنظمة إراديا والتي اقترحها الفيزيائي الدنماركي بار باك فهي تستند إلى نمذجة كتلة الرمل. تسعى هذه الاستعارة للتعبير عن عنصر الخطورة في قسم كامل من الظواهر المسببة لسلسلة من الأحداث المتتالية – التي تذهب من الزلازل إلى العواصف الثلجية مرورا بالفياضات -. تعبّر هذه الظواهر عن نفسها عبر نموذج خاص يأخذ شكله انطلاقا من درجة معينة من الوقوع. فالمثال النظري لكتلة الرّمل لا يستعمل في فهم فيزياء الرمل لكنه يقدم نموذجا لفهم الأحداث المذكورة سابقا. يصوّر المثال كتلة رمل أو أرزّ – انطلاقا من درجة معينة من التراكم – تكفي حبة واحدة منها لتسبب تغييرا نوعيا للكتلة كلها: تتصرف هذه الأخيرة بشكل مغاير تماما. وقد دُرِس هذا النموذج في محاولة لمواجهة الكوارث الطبيعية التي تقف إزاءها آفاق التوقع، وتدخّل الإنسان، دون كثير قدرة، ويمكن في أحسن الحالات أن نتوصل إلى معرفة الإشارات التي تنبئ بها أو القرينة التي تشجع عليها.

هناك استعارة أخرى تعبر عن الظواهر ذات العناصر الخطرة هي تلك المتعلقة بـ"حافة الفوضى". إنها تفترض أثر الدرجة، والتحول من مرحلة إلى أخرى، أي انتقال نوعي من حالة إلى حالة. إن هذه الوضعية التي تقف على حافة حالتين مختلفتين وفي بعض الحالات متنافرتين، تقترب من منطقة هشة لكنها حبلى، حيث يتحرك التعقّد فيها بين نظام فائض (ميّت) وفوضى عارمة (ضجيج)، بين البلّور الصافي وبين الدّخان. إن حافة الفوضى تدلّ على أنه إذا ما توفرت بعض الشروط يمكن لمجموع أن يتبنى تصرفا نوعيا جديدا. فالاستعارة التي يمكن نقلها إلى كل الظواهر تعلن عن الديناميكية الخلاّقة للدرجات؛ وذلك عندما تظهر رقصة عدم التّوازن في المادة أو الكائن الحي. ستذهب علوم التعقّد إذا للبحث عن استكشاف الحافة والحدود والمرتفعات البحرية والأضلع والخصوصيات. وكمثال على هذا التحول من حالة إلى أخرى يمكن ذكر حركة المرور: فعلى مستوى سيارة واحدة أو عدد من السيارات لا يمكن أن نتوقّع الانتقال من حالة السيولة إلى حالة الازدحام، أو أن نفهم العناصر المؤدية لذلك. فتعطّل حركة المرور هو أثر جماعي يفرض نفسه كتغيير نوعي. وبهذا المعنى نتبين أهمية فهم التحول بين بعدين مجهري ومرئي أو بين الآثار الكمية والنوعية.

وإذا ما تجاوزنا الاستعارات والظواهر الطبيعية التي تمثل مصدر إلهامها، فإن التعقيد يتدخل أثناء التحولات الكبرى التي تحدث في العالم المادي كما في مجتمع المعرفة. وما كان يرد إلى اعتبارات دينية وفلسفية وماورائية يدرس الآن بعبارات فيزيائية رياضية. وإذا كانت بداية القرن الواحد والعشرين موافقة للعصر الذهبي للتعقيد فإن هذا الأخير بفضل العلوم غير الخطية بصدد أن يصبح علم الاتجاه السائد منذ أن عمدت المجلتان العلميتان الأكثر تأثيرا « Science » و « Nature »إلى تخصيص افتتاحيتين عن حدود الاختزالية والحتمية . فعلم الإحياء وبالخصوص علم الوراثة أصبحا ذات وزن هام يوازي ما كان للفيزياء ما قبل الذرة في الربع الأول من القرن الماضي. إن اتجاه الاختزالية إلى أصغر العناصر المتمثلة في الجينات دفعنا إلى الظن أنها ستبقى فاعلة وأنها ستتمكن من عزل الجينات حسب وظيفتها وحسب المرض الذي تسببه كل واحدة منها. لكن وبسرعة كبيرة تبين لعلماء الاحياء أنهم لم يتجاوزوا مرحلة الولادة، أي مرحلة إسناد أسماء للجينات، لأنه برغم أن هذه الأخيرة تمثل الأجزاء الأصلية للخريطة الجينية، تعذّر إعطاؤها وظيفة أو مرضا معين. فالجينات كمثل حروف الأبجدية تحتاج إلى معرفة قواميسها ونظمها والنحو الخاص بها. وتعبر الجينات عن نفسها ضمن شبكات تفاعلية مع محيطها البيولوجي، ووحدها عملية نمذجة تعقيدها مثلا عبر البيو-إعلامية تبقى قادرة على الإمساك بديناميكية نشاطها.

أما ما يخص مشاكل المجتمع المعاصر سواء ما تعلق بدراسة التخطيط العمراني والصحّة العمومية، الاقتصاد والعلاقات الدّّولية، فإن علوم التعقّد تفهمنا ضرورة أن نغيّر عقلياتنا للتوصل إلى طريقة جديدة في التخطيط والتنظيم والتحكم في المنظومات التي لا تعمل خارج نطاق التوازن. علينا الانتقال من فهم خطي وميكانيكي للنظم إلى فهم ديناميكي أكثر قربا من الحقائق البيولوجية والثقافية.

إن التعقيد بصفته شبكة لقراءة العالم المعاصر لا يدعي حل كل المشاكل المستعصية التي تطرح على إدارة المجتمعات المعاصرة. وهو يساهم بتواضع في فهم التصرفات الصادرة عن مجموعة المنظومات الديناميكية وكذلك تشخيص النقاط المفاتيح صاحبة الآثار الفاعلة والتغيير ليكون التدخل والتفاعل أفضل. فالتعقيد كطريقة في التثبت يسلم بنهاية علم الرقابة والتدخل ويدفعنا نحو بداية مغامرة جديدة للمعرفة تقوم على المشاركة فيما تلاحظه.

لمزيد الاطلاع أنظر بحوثا للكاتب باللغة الفرنسية

Réda Benkirane، La Complexité، vertiges et promesses. Dix-huit histoires de sciences، Paris، Le Pommier، 2002، 2006 (collection poche).

L’énigme de l’émergence. In « Sciences et Avenir »، hors-série، No 143، juillet-août 2005.

La Complexité. La science du XXIe siècle. In « Pour la Science »، No 314، décembre 2003.

 

Les commentaires sont fermés