سويسرا.. ومُشكلة الـهـويّــة
بقلم: رضا بنكيران
في الظاهر، يسير كل شيء على ما يُرام في سويسرا: الإقتصاد في أوج ازدهاره، والكنفدرالية تدار بشكل جيّد، ووضعها المالي متوازن. ولكن، بمجرّد تجاوز هذه الحقائق الظاهرة، تتكشّف أزمة هوية مستحكمة سلّطت عليها الضوء نتائج اقتراع 9 فبراير 2014 ضد الهجرة الجماعية، والتصريحات المتكررة لكريستوف بلوخر، يقول الخبير الاجتماعي السويسري المغربي، رضا بنكيران.
هذا المحتوى تم نشره يوم 09 نوفمبر 2014 – 11:00 يوليو,09 نوفمبر 2014 – 11:00
رضا بنكيران
منذ ما يقرب من ربع قرن، تجد سويسرا صعوبة في إدراك حقيقة هويتها. وهذا المرض يُفخّخ البلاد، ويمكن أن يتحوّل في نهاية المطاف إلى حالة مزمنة، وبالتالي غير قابلة للعلاج.
اندلعت أزمة الهوية مع نهاية الحرب الباردة بالضبط، وما انفكت تعبّر عن نفسها من خلال تطوّرات سياسية واقتصادية متلاحقة.
خلال الفترة الممتدة من 1945 إلى 1989، كانت سويسرا مهيّأة بشكل جيّد لمواجهة تحديات النظام العالمي. وقد أعلى النظام ثنائي الأقطاب آنذاك من شأن قيم عُرفت بها كالحياد، والإستقرار، والدقة، واستشراف المستقبل. ولكن منذ ذلك الحين، شهد العالم تغيّرات متسارعة، وعولمة متواصلة. وأصبح الزمن، مثل الطقس، في حركته ونظامه، مزيجا من الفوضى. هذا هو التغيير العميق الذي هزّ سويسرا، بعد أن جعل قيمها الخالدة قليلة الجدوى في مواجهة حالة الشك وعدم اليقين التي تميّز عالم اليوم.
في الأصل.. أزمة هوية
ولكن من ماذا يشكو هذا البلد بالضبط؟ هل تُـدار دواليب الدولة فيه بشكل سيء؟ وهل هي بين أياد طبقة سياسية غير كفؤة؟ وهل ترزح ماليتها تحت وطأة الديون؟ وهل اقتصادها بصدد الإنهيار؟ وهل تهدد البطالة مستقبل شبابها وحتى كبار السن من مواطنيها؟ وهل هناك تهديدات إرهابية أو عسكرية أجنبية تستهدف أراضيها بشكل خاص؟ مسح سريع يمكّن من تبديد كل الشكوك على الفور: المشكلة لا تكمن في الأسس الإقتصادية، أو الوحدة الترابية، بل في شيء غير ملموس هو جزء من الرؤية للمستقبل، أو بالأحرى انعدام الرؤية، وعدم القدرة على الإندفاع نحو الأمام.
فما الذي يُعاني منه السويسريون إذن؟ يتساءل منذ عقديْن باستغراب الأوروبيون والأمريكيون، وقد مروا هم خلال نفس الفترة بالعديد من الكوارث والمآسي، وواجهوا مخاطر هددت كياناتهم السياسية والإقتصادية مرات عديدة. يغبط الآخرون السويسريين كثيرا، لكنهم لا يبدون تجاههم أي تعاطف مع حالاتهم المزاجية. ولأن السويسريين لم يعرفوا لا حربا، ولا مجاعة، ولا إفلاسا، فهم شعب لم يعان، ولا يمكنه أن يعاني: فمجتمعهم محمي، ومحصّن بألف طريفة وطريقة، ويتمتّع بمستوى ونوعية حياة قلّ من يستطيع الوصول إليها.
ضمن هذا السياق، يجب أن ننظر إلى مُخرجات اقتراع 9 فبراير 2014، الذي صوّت خلاله الناخبون السويسريون ضد الهجرة الجماعية، كحلقة أخرى- وربما لن تكون الأخيرة – في سلسلة تمتد لربع قرن، جرت فيها الامور على خلاف ما كان متوقعا.
المشكلة تنبع من الموقف الذي لا يمكن التنبؤ به لأصوات تعبّر عن مكنونات الطبقات الإجتماعية العميقة، ولكن ليس هذا فحسب، فالنخبة السياسية والإقتصادية كشفت في بعض اللحظات الحاسمة عن حالة من التردد وعدم الثقة “في النفس”، وعجز واضح عن الإستشراف في حالات الخطر وعدم اليقين.
كان ذلك خلال اقتراع 4 ديسمبر 1992 (بشأن الإنضمام إلى المجال الإقتصادي الأوروبي)، وظهور مشكلة الودائع اليهودية خلال الحرب العالمية التي لم يطالب بها أحد (1996)، وسوء الإدارة والتأخّر في حسم ملف المعرض الوطني (2001)، والإفلاس المفاجئ لشركة الطيران “سويس آر” (2001)، وحملات حزب الشعب السويسري الإشهارية ضد الخرفان السوداء (2007)، وحظر المآذن (2009)، والنهاية المعلنة للسرية المصرفية (2008)، والأزمة مع عائلة القذافي (2008)، كل ذلك يرسم ملامح النفسية السويسرية، التي تطرح، عند الغوص في أعماق الأشياء، جملة من الأسئلة السريرية المرتبطة بمشاعر الخوف من الآخر، وانعدام الثقة في النفس، في آن معا.
تستضيف swissinfo.ch من الآن فصاعدا بعض المساهمات الخارجية المختارة. وسوف ننشر بانتظام نصوصا مختارة لخبراء، وصانعي القرار، ومراقبين متميّزين، لتقديم وجهات نظر تتسم بالعمق والطرافة حول سويسرا أو بعض القضايا المثيرة ذات العلاقة بهذا البلد. ويبقى الهدف في النهاية مزيد إثراء النقاش وتفعيل الحوار.
“حاجز روشتي”
الحديث عن أزمة الهوية يجرّنا إلى الحديث عن “حاجز روشتي” (أي الحد الإفتراضي الفاصل بين المناطق السويسرية الناطقة بالألمانية، والأخرى المتحدثة بالفرنسية)، أو أيضا عن هيمنة حزب الشعب على الأجندة السياسية. ولكن هذه مجرّد أعراض وليست السبب الحقيقي الكامن وراء تصدّع “النحن” السويسرية التي يتم عرضها وتقديمها للآخرين في العالم أجمع. فكل اقتراع يفوز به حزب الشعب يكشف عن المدى (الذي وصلت إليه) أزمة الهوية. هذه هي القيمة المضافة لهذا الحزب، الذي عرف – من خلال تواصل يعتمد بطاقات بريدية (ذهنية) مثالية – كيف يُعيد إلى السطح المسكوت عنه في هيلفيتسيا (التسمية اللاتينية لسويسرا) السعيدة سابقا، والمذعورة أكثر فأكثر من الترددات وأصوات النشاز المنبعثة من شتى أنحاء العالم.
التغلّب على أزمة الهوية هذه لا يكون بمحاربة أفكار حزب الشعب المعادية للأجانب، بل بالإنكباب على تحليل اللاشعور والكبت الذي يتخفى وراءها، وممارسة نوع من العلاج النفسي الجماعي لمرض الرّهاب السياسي والإقتصادي والثقافي الذي يؤثّر على فئة من السكان – وعلى وجه التحديد الفئة الأقل عُرضة لهذه المخاطر المتوهمة التي تروّعها عقليا وتجعلها تتمثّلها إلى الحد الذي يتصوّر لها أنها تهدد بقاء الدولة ذاتها.
لفهم عن ماذا نتحدّث، لابد من معالجة قضية الهوية من منظور نظام المناعة، والعلاقة بين الأنا والآخر. ويعتقد الجنس السويسري النقي أنه بامكانه الإحتماء من التهديد الخارجي عبر الإنكفاء الإستراتيجي على الذات، ورفض الآخر، والحذر من المؤسسات الدولية الإقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعلمية، كما لو أنها أحصنة طروادة. لكن هذا الشعور يُطلق في واقع الأمر عملية تدمير ذاتي للهوية.
من دون القيام بأي بحوث بعدية أو استباقية استشرافية، حول مسألة الهوية، يُخشى أن يزيد هذا البلد الصغير من إضعاف جهاز المناعة لديه، والحال أن بنيانه شُيّد على تنوّع ثقافي وديني يعمل بشكل جيّد، وعلى نظام سياسي فدرالي، كان بإمكانه أن يكون نموذجا لأوروبا وللعالم في الماضي، كما بإمكانه أن يكون كذلك في المستقبل.
وقد حاز كريستوف بلوخر، الوزير السابق في الحكومة الفدرالية، شرف تسليط الضوء على عملية التدمير هذه بإصداعه بصوت عال في ما يفكّر فيه (آخرون) بصمت. وعندما يشدد على أن “السويسريين الناطقين باللغة الفرنسية كان شعور الإنتماء للوطن لديهم أضعف من نظرائهم”، فإنه يعبّر عن مكبوت لا يجرؤ العديد من المواطنين الآخرين على التعبير عنه. وعبارته تساعدنا في التحقق من سلامة تشخيصنا، ومواجهة الحقيقة المرة التي تنحدر منه: سويسرا، التي لا تحب الأجانب، لا تحب نفسها كثيرا. وعندما يقول بلوخر إن سويسريين آخرين يميلون إلى أن يكون إحساسهم الوطني (في أنفسهم) أقلّ حميمية، يساهم هو نفسه من حيث لا يشعر في إضعاف ما يسميه الشعور الوطني عندما يجد صعوبة في اعتبار شعور فئة من المواطنين انتماءً كاملا! والبحث المستمر عن الهوية الكاملة، كما نرى، هو ضياع مستمر للأنا، وهو نزيف لما يصنع قوة جهاز المناعة وحيويته. إنه علّة الأمم في زمن العولمة.
الواقع أكثر تعقيدا مما هو متصوّر
دأبت سويسرا على تقديس “الشارة البيضاء”، وذلك بجعلها رمز الفضيلة. لقد اكتشفت أخيرا فقط أنه “ليس كل البجع أبيض”، ويبقى عليها أن تقبل أنه لا يُوجد شيء أكثر شرا في الوجود من اعتبار خرقة رمادية “مربعا أبيض”، أو فضاء محايدا قادرا على تمثيل كل الألوان الاخرى. ينبغي أن يكون النظر في مسألة الهوية لا من خلال الخرفان بل من خلال “البجع الأسود”، من حيث حدود الأخطار وحجم الحصص.
من دون القيام بأي بحوث بعدية أو استباقية استشرافية، حول مسألة الهوية، يُخشى أن يزيد هذا البلد الصغير من إضعاف جهاز المناعة لديه، والحال أن بنيانه شُيّد على تنوّع ثقافي وديني يشتغل بشكل جيّد، وعلى نظام سياسي فدرالي، كان بإمكانه أن يكون نموذجا لأوروبا وللعالم في الماضي، كما بإمكانه أن يكون كذلك في المستقبل.
بإمكان هذا البلد إعادة ابداع مثله النموذجية، وبدلا من أسطورة السهل المنبسط المستقر، يمكنه تجديد عزمه من خلال الجيوفيزياء المضطربة، والجمالية الحدباء لهضاب الجورا، وقمم الألب.
وفي هذا الصدد، يبدو الشباب السويسري واعدا، ويرسم الطريق التي تقود إلى المستقبل. وفي هذا الصدد، هم ماهرون في رياضات التزلّج، والرياضات الخطرة. وبالتالي فهم متسلحون بثقافة المخاطرة، واللعب على الحبال وما يتطلّبه من حسّ مرهف في الحفاظ على التوازن. وأيضا قدرتهم الخارقة في تأمين سلامتهم على علو شاهق، وقدرتهم الفائقة على صعود ونزول المنحدرات. هؤلاء لا يمكن أن يتصوّروا المستحيل أو اللامفكّر فيه. والآن، لابد من دمج كل ذلك في المشهد “العقلي”، و”الضمير الوطني”.
رضا بنكيران
عالم اجتماع ومستشار دولي بجنيف. وهو أيضا باحث مشارك في مركز جاك بيرك (الرباط)، وعضو مؤسس في مركز دراسات الجزيرة (الدوحة)، وباحث متعاون مع متحف تاريخ الأجناس بجنيف، وصحفي كاتب بالمجلة السويسرية “Le Temps stratégique”، كما تولى إدارة مكتب الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة.
ألّف العديد من الكتب والدراسات من بينها: “ارتباك الهوية”، و”الشباب والعروبة والإسلام المعاصر” (2004)، و”مفترق الطرق” (2012)، و”القضايا المعقّدة: بين الوعود والوعورة” ( 2002- 2013). كما راجع وكتب مقدّمة جاك بيرك “ما الإسلام؟”، وشارك في الكتاب الجماعي “الثقافة والثقافات ودراسة الأجناس”.