لبنان: عدم القدرة على التوقع، والإفراط في استعمال القوة، والعجز

 


 لبنان: عدم القدرة على التوقع، والإفراط في استعمال القوة، والعجز
قلم: رضا بن كيران
ترجمة: خالد حاجي

 

 

 
08/2006   مركز الجزيرة للدراسات

 

تميزت الحرب الإسرائيلية على لبنان بخصائص ثلاثة: عدم القدرة على التوقع، وعدم التكافؤ في استعمال القوة، ثم أخيرا الإحساس بالعجز. وبذلك فإن هذه الحرب مثلت منعطفا في تطور المنطقة وفي تمثل الصراع الإسرائيلي
الفلسطيني، كما أظهرت، في العمق، عجز ممثلي المجتمع الدولي عن التعامل مع مشاكل الشرق الأوسط الجيوسياسية وقصور أدواتهم التحليلية ثم فساد قراءتهم لواقع المنطقة.

 عدم القدرة على التوقع

من كان يتخيل أن مسلسل أسلو الشهير (1993-2000 ) الذي توج بثلاث جوائز نوبل للسلام سيفضي ذات يوم إلى قذف مكاتب السلطة الفلسطينية والقبض على وزرائها وأعضاء برلمانها؟ أهناك من لا يزال يتذكر أن أول عملية استشهادية قامت بها حركة حماس إنما جاءت بعد الهجوم الذي نفذه أحد المتدينين الصهاينة أتباع"ماير كاهان" في سنة 1994والذي سقط على إثره ثلاثون من المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي ومئات الجرحى؟ هل كان من الممكن أن يخطر على بال أحد أن رئيس الوزراء إسحاق رابين، هذا الصقر الذي تحول إلى حمامة، سيقتل رميا بالرصاص في سنة 1995 على يد متطرف إسرائيلي، وليس على يد ناشط فلسطيني أو من حزب الله؟ من يصدق أن المجاملات بين رئيس الوزراء يهود براك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، هذه المجاملات التي نقلتها وسائل الإعلام، ستئول إلى سجن الرئيس الفلسطيني في مقاطعته ونهايته المأساوية؟ أيعقل أن يلقى الجنرال أريال شارون نهاية رمزية أسوء من نهاية الرئيس الفلسطيني الذي كان يعتبره شارون المتهم الأول وراء اندلاع الانتفاضة الثانية سنة 2000؟ وأخيرا، أيصدق أن وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، أمير بيريز–عضو حركة السلام الآن التي أسست لتعارض الحرب على لبنان سنة 1982—هو نفسه الذي يقود حربا مدمرة على بلاد الأرز، فيقتل عددا من الأطفال أكبر من قتله للرجال المسلحين؟

إذا كان اتساع رقعة الحرب الأخيرة على لبنان يدل على أنها حرب مسبوقة بتحضير طويل وتأهب منذ فترة طويلة—في انتظار فرصة الانقضاض المواتية—فإن الإحساس بعدم القدرة على التوقع ينمو مع تطور الأحداث ويفصح عن عجز الخبراء العسكريين الإسرائيليين عن التحكم في مجريات الأشياء والتنبؤ بمآلاتها. فخلافا لما كان يتوقع، لم يتم نبذ حزب الله، كما لم تزده الحرب عزلة داخل الساحة الدينية والسياسية في لبنان، بل، على العكس من ذلك، فاق ما أحرز عليه الحزب من أرباح، إن على الصعيد الدبلوماسي أو العسكري، كل التوقعات والآمال.

عدم التكافؤ في استعمال القوة

إن نسبة الخسارة في المنطقة هي واحد على عشرة، أما نسبة عدد السجناء والدمار الحاصل فهي واحد على عشرة آلاف. ردا على أسر جنديين إسرائيليين، يهدم وطن بأكمله ويأخذ كرهينة. ولقد حصل هذا القصف الكثيف بالقنابل وما خلفه من دمار في لبنان بمباركة الولايات المتحدة ودعمها الكبير من جهة، وبفضل صمت بريطانيا الدال على الموافقة والقبول. إذا جاز لنا أن ننعت هذه الحرب بأنها حرب وجود أو عدم، فإن ذلك يصدق على لبنان بصفة مأساوية، هذا البلد الذي خرج منهكا من حرب أهلية طويلة (1976-1991 ) وبعد تحرره من الجارة سوريا (2005 ). إذا كان هناك من هو معرض للانهيار، فإنه لبنان وليس غيره؛ فهذا البلد معرض للانهيار حتى قبل الحملة العسكرية التي استهدفته، نظرا لطبيعة تشكيلته الدينية والسياسية المعقدة.

خلافا لما يقال، ليس الإفراط في استعمال القوة من جانب إسرائيل شرطا ضروريا لبقاء دولة إسرائيل. لم تدرج المقاربة العسكرية المفرطة في صلب معتقدات المؤسسة العسكرية إلا بعد فشل مسلسل أوسلو (2000)، حيث فوجئ الإسرائيليون بعدم وجود شريك في السلم؛ والواقع أن العمليات التي كانت تستدعي الرد خلال الانتفاضة الثانية لم تكن تصل لتهدد بقاء إسرائيل. إن هذا المذهب العسكري, والذي هو عبارة عن مزج بين عمليات البحث والهدم، والمباغتة والترويع، بلغ نهايته في غزة والآن في لبنان. لقد أثبت فشله، ذلك أن الإفراط في استعمال القوة العسكرية، كما عبر عنه الجنرال دان هالوتز في أكثر من مناسبة، ينزع صفة الإنسانية عن كل نفس بشرية غير النفس الإسرائيلية، وينم عن احتقار لكل مجتمعات الشرق الأوسط عدا المجتمع الإسرائيلي.

بعد أن قررت الدول العربية بصفة نهائية التخلي عن كل محاولة للدخول في مواجهة العسكرية مع إسرائيل، معترفة بحقها في الوجود، صار التفوق العسكري الإسرائيلي (بفضل الدعم الأمريكي اللامشروط) وتملصها من العقوبات على إثر عملياتها العسكرية ضد المجتمع المدني في كل من فلسطين ولبنان مصدر مشاكل واضح. إن الترسانة العسكرية الإسرائيلية وقوتها النارية التي لا توازيها قوة في المنطقة، أصبحت تهدد المجتمعات المدنية بشكل متطور، بما فيها المجتمع الإسرائيلي، هذه المجتمعات التي وجدت نفسها في قبضة الوطنية المتحجرة.

إن ما يسمى بالديموقراطية الإسرائيلية تتحدد أولا بنسبة الميزانية الوطنية المخصصة للجيش ووزنها المؤثر على الحياة السياسية—يحق لنا القول بأننا تجاه "جيش يملك دولة"، وليس العكس، كما يقول المواطنون الإسرائيليون بتهكم. فإسرائيل إذن "ديموقراطية عسكرية" حيث تفوق قيمة الجندي الإسرائيلي قيمة المواطن الإسرائيلي، وكذلك من حيث إن السنوات العشر الأخيرة عرفت صعود ثلاثة جنرالات إلى منصب رئيس الوزراء (إسحاق رابين، ويهود براك، ثم أريال شرون). ولنا الحق أن نتساءل إلى أي مدى كانت حالة يهود أولمرت وأمير بيريز المدنية هي الدافع وراء المغامرة العسكرية—فقد وقع من قبلهما شيمون بيريز في الخطأ نفسه مع لبنان قبل عشر سنوات.

إن عدم التكافؤ في هذه الحرب أحدث خللا في جملة من المعطيات الديموغرافية والجغرافية، بدء من كون إسرائيل—بسبعة ملايين نسمة—محاطة بما يقرب من 300 مليون عربي. إن ضم القدس من جانب واحد يجعل أربعة عشر مليون يهودي في مواجهة مليار ومأتي مليون مسلم. وفي هذا السياق، ليس من سبيل إلى تبرير الاستعمال المفرط للقوة العسكرية والعنف الإسرائيليين إلا اعتماد المجاز لوصف الوضع وكأنه وضع "فيلا وسط الغاب" كما عبر عن ذلك يهود باراك. وعالم الغاب بيئة عدائية تحتاج إلى تنقية وتطهير، وهذا هو الدور المنوط بالزعماء الإسرائيليين الذين يقفون في طليعة الحرب التي يخوضها "العالم الغربي المتحضر" ضد "الشرق الظلامي". إن هذا التمثل للعالم الإسلامي والعربي، وكأنه عالم الغاب المليء بقوى الشر، تتلاءم ومشروع الشرق الأوسط الكبير المفترض. إن هذه المسخرة الجيوسياسية مستوحاة من نظرة الرئيس الأمريكي التبشيرية الإنجيلية؛ فالرئيس الأمريكي يحاول أن يفرض على عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر المعقد شكلا من أشكال التدين على الطريقة الأمريكية. لا شيء يوازي إصرار الرئيس بوش على محاربة "محور الشر" فظاعة سوى ما تحدثه هذه الحرب من فوضى.

العجز

بالنسبة للمواطن العادي في عمان والقاهرة والدار البيضاء، إن ما يقع في العراق من هدم، إضافة إلى تمادي إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني وإفراطها في معاقبة لبنان، كلها مؤشرات تجلي بوضوح مأساة الوضع العربي وعجز زعمائه السياسيين حين يتعلق الأمر بصياغة رد سياسي موحد. وفي هذا السياق، يبدو في أعينهم بأن مقاومة حزب الله هي المقاومة الشرعية الوحيدة.

بينما اقترحت الجامعة العربية من بيروت إحدى أهم مبادرات السلام وأكثرها تماسكا سنة 2002—وهي المبادرة التي قامت برفضها إسرائيل—ظل القادة العرب هذه المرة عاجزين عن اللجوء إلى أي فعل تضامن مع لبنان في محنته، وهذا ما لا سبيل إلى تفهمه أو السماح به في نظر الرأي العام العربي. وكيف يسار إلى فهمه وتقبله والأنظمة العربية لا تفتقر إلى وسائل الضغط، إذ أن بيدها سلاح من أقوى أسلحة الردع: البترول والغاز.

إن عجز قادة المنطقة لا يوازيه سوى عجز قادة الدول الثمانية ومواقف الإتحاد الأوربي والأمم المتحدة الخانعة عن فرض وقف للحرب وتشكيل قوة دولية لحفظ للسلام في لبنان. ولعل هذا العجز يعود إلى التمثل والمعالجة غير المتزين لمشاكل الشرق الأوسط، أومن مبدأ "الكيل بمكيالين" الذي يفصل بين اليهودي الإسرائيلي والعربي المسلم فصلا إثنيا. إن لزاوية النظر هذه جذور تمتد إلى الحقبة الاستعمارية ويغذيها الإحساس بالذنب على إثر الإبادة النازية لليهود، وهي زاوية نظر لا تخدم السلم بقدر ما تبقي على التوتر وتدفع باتجاه الصراع.

لكن أعظم حالات العجز كانت تلك التي لحقت بدولة إسرائيل، حيث ظل هذا الكيان، على الرغم من قوته العسكرية العظمى وتسلحه الكبير، وترسانته النووية، ورغم الدعم الأمريكي والبريطاني غير المشروط، عاجزا عن أن يوفر الأمن والسلام لمواطنيه. فعوض أن تكون دولة إسرائيل أكثر الأماكن أمنا لليهود–كما كان من المفروض—صارت بالنسبة لهم أخطر موطن، موطن وهم.

إن طبيعة الحرب غير المتوازية بين إسرائيل من جهة، وكتائب حزب الله والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، يعزز الإحساس بتزاوج القوة والعجز. فجيش تساحال الذي هزم الجيوش العربية مجتمعة في ستة أيام في جوان عام 1967، فشل بعد شهر من القصف الجوي والمعارك الطاحنة في القضاء على حزب الله الذي لا يتوفر على طائرات ولا سفن حربية ولا دبابات.

إن المأزق الوجودي الإسرائيلي يتمثل في العلاقة مع الذات الفاعلة، وخصوصا في الربط الدائري بين القوة العسكرية والعجز السياسي. فكلما طورت إسرائيل قوتها التكنولوجية والعسكرية، كلما زاد مجتمعها إحساسا بالضعف والخوف، فترسخت لديه نظرته إلى ذاته كضحية (من هنا مقولة "كل العالم يكرهنا") وسط بيئة عدوة وغريبة.

إن أصحاب النظرية العسكرية الإسرائيلية، بمحاولتهم غير المجدية لإيجاد حل لمشكل سياسي في الجوهر (رفض الاعتراف باستقلال الشعب الفلسطيني وسيادته)، إنما يطلقون مسلسل التدمير، وهم بذلك يؤججون نار الكراهية في العالم العربي والإسلامي بأكمله، وهذا ما يعد بدمار شامل على المدى البعيد. فكل انتصار عسكري في هذه الظروف يمثل هزيمة سياسية تفاقم من مخاطر المستقبل.

إن العجز الحاصل بالرغم من، أو نظرا للقوة العسكرية وقدرتها الفائقة على الهدم، يشهد، مثله مثل المأزق المتمثل في الحائط العازل في الضفة الغربية، على أفق أولئك الذين نسوا حكمة نبوتهم القائلة: إن الإنسان لا ينتصر بالقوة". متى يأتي زمن يتولى فيه الحكماء مصير البلد، فينخرطوا، لا في هدنة تكتيكية، ولكن في مصالحة نهائية مع الجيران، ويندمجون في الشرق الأوسط ذي الطاقات والقدرات الواعدة؟ أين هم أنبياء إسرائيل؟

رضا بن كيران

 

Les commentaires sont fermés