منطق المعيار المزدوج

 

 

منطق المعيار المزدوج

 بقلم: رضا بنكيران

Doha Centre for Media Freedom مركز الدوحة لحرية الاعلام

 

 

 

مركز الدوحة لحرية الاعلام, 02/ 2009
 

إن قضية الرسوم الكاريكاتورية الدنمركية مأساة بكل ما في هذه الكلمة من معنى على ما يجمع الأفراد أحدهم بالآخر أكثر مما يفرّقهم عن بعضهم البعض. ولا شك في أن تضخيم كبرى المؤسسات الإعلامية المرئية للقضية ليزيد انحياز الاختلافات الدينية والثقافية حدة. وبدلاً من المساهمة في فهم "إنسانية البشرية"، نقع، بفعل بلادتنا الذهنية، في جدلية مبتذلة للعلاقة القائمة بين الذات واللا ذات;كم نشعر بالارتياح لمواجهة صورة الأوروبي المصقولة بسيناريوهات جماعات المحرومين والعاطلين عن العمل، المحرّكين والمسيّرين، الذين يتفاعلون تعصّباً على أبواب السفارات الأوروبية. ويبقى تصوير ردود الفعل المتفاوتة هذه كفيلاً بأن يلقي بظلالها على مجمل المجتمعات ويصمها بالعار.
أما الانطباع العام السائد فيتبلور بتأجج العالم الإسلامي خمس البشرية.

 

هل يجدر التذكير بأن "المقدّسات" تتسم بطابع مقدّس في معظم المجتمعات، بما في ذلك في أوروبا؟ هل نسينا أن عرض فيلمي جان لوك غودار (السلام عليك يا مريم) ومارتن سكورسيزي (تجربة المسيح الأخيرة) في ثمانينيات القرن الماضي قد أثار مطالب مكثّفة بالحظر، وتظاهرات، ومواجهات عنيفة، وإطلاق متفجّرات، وإحراق دور سينما، وعدد من الجرحى؟

 لا يكمن الجدل المطروح في معرفة ما إذا كان يجدر بحرية التعبير أن تكون تامة أو جزئية، وما إذا كان يجدر الضحك من كل شيء حتى من الأديان، وإنما في المعالجة التمييزية والجائرة لحرية التعبير هذه، ولحس الفكاهة هذا، وحتى للحقوق الإنسانية والعالمية، ذلك أن منطق المعيار المزدوج يتغلّب دائماً على منطق الإنصاف والشمولية. الواقع أن القيم المعروفة بالعالمية التي تدافع النخب الأوروبية عنها تصطدم بعائق محرج يتمثل بهندستها المتغيّرة. ولعل سياسة "المعيارين"، أكثر من القيم بحد ذاتها، هي التي تضعفها هل يمكننا فعلاً الضحك من كل شيء، حتى من المتديّنين والأديان؟ هل نحن متأكدون من ذلك لهذه الدرجة؟ عندما قام الممثل الهزلي الفرنسي ديودونيه مثلاً بالسخرية من رجل دين يهودي متطرّف في برنامج تلفزيوني، أثار موجة عارمة من الاستنكار والمشاعر المتطرّفة. ومنذ ذلك الحين، لم يُعرض هذا المشهد واختفى الممثل الفكاهي من على قنوات التلفزة فيما ألصقت سمعة شيطانية به. فإن هذا النوع من المشاهد الساخرة يُربَط حكماً برهاب اليهود، والعنصرية، وحتى بالميل إلى النازية لكنه يبدو أن الرسوم الكاريكاتورية التي تربط رسول الإسلام بالعنف السياسي والإرهابي الحالي لا تصب في خانة رهاب المسلمين وإنما في خانة حرية التعبير. فيا له من منطق غريب. ما يمكننا قوله عن رسم كاريكاتوري لنبي اليهود يقرنه بصور تحمّلها المواطنون الأوروبيون العبريو الانتماء أو الثقافة على حساب شقائهم وعلى مضض؟ لماذا يؤدي حس الفكاهة أو النظرة الانتقادية إلى رهاب اليهود وشعور بالكره المنفّر والإهانة حكماً في إحدى الحالات، وإلى "الابتكار الفني" و"التعبير عن حرية التعبير" في حالة الإسلام والمسلمين؟

 ينطبق الوضع نفسه على الديمقراطية التي نتباهى بمزاياها وفضائلها ونصرّ على تطبيقها في العالم الإسلامي. ولكن، ما رأي النخب الأوروبية بتسهيل الديمقراطية تصدّر الحركة الإسلامية في الانتخابات البارحة في الجزائر (1990 – 1992) أو الأهم بما سعت وما تسعى إليه  اليوم في تركيا، والعراق، وفلسطين، ومصر، وربما غداً في المغرب؟ هل ينبغي إلغاء الانتخابات الحرة عندما يتبيّن أن الفائزين لا يشبهون الصورة الذهنية النموذجية التي رسمها الأوروبيون والأمريكيون؟ هل ينبغي المطالبة ببقاء الدكتاتوريين وغيرهم من القادة الرديئين متربّعين على العروش بحجة أنهم قادرون على قطع الطريق على "هؤلاء الناس" الذين يدّعون أكثر مما يفعلون في الحقيقة بسلوك درب مغايرة لتلك التي اختارتها أوروبا (في إشارة إلى عصر التنوير واندبقت بها أحياناً (ظلمات القرن العشرين وجثثها بعشرات الملايين، ومحرقتها، وأهوالها الاستعمارية). لمَ لا نشهد حركة من "الديمقراطية الإسلامية" كما نشهد تيارات من "الديمقراطية المسيحية" كانت المحرّك الأساسي لأوروبا الاجتماعية والسياسية؟

 هل يمكننا الضحك من كل شيء؟ نعم، حتماً، ولكنه يجدر بنا أن نكون قادرين على الضحك من كل شيء ومن كل الأفراد من دون أي استثناء! لا يبدو أن النخب الأوروبية مستعدة لهذه الممارسة التي قد تطيح باستقرارها. فإن العالم المتعدد الأقطاب بأغلبيته غير اليهودية  المسيحية يدمدم ضحكاً وحساً فكاهياً موجهاً إلى قوى استعمارية سابقة أكل الدهر عليها وشرب، ولم تعد مرجع "المراجع" لافتقادها منذ زمن طويل للوسائل التي تخوّلها فرض ثقافة سيطرتها. فلنتسلّح بالآذان الصاغية ولنعمد، بعيداً عن أي غطرسة فكرية وتعجرف ثقافي، إلى بناء حس الفكاهة لمواجهة هذا العالم المعقّد والتعددي المترامي تحت أنظارنا

 

Les commentaires sont fermés