سياسة الوباء في عهد المجتمعات الأمنية

ترجمة: سفيان شنيك
طالب باحث بالأنثربولوجيا والسوسيولوجيا
(SoufienChinig@gmail.com) 

 “رضا بنكيران، عالم اجتماع، باحث بمعهد الدراسات العليا الدولية والتنمية جنيف، سويسرا، وهو مؤلف تقرير الأمم المتحدة، “التطرف، العنف و(اللا) الأمن في منطقة الساحل
(HD / PNUD 2016)

Réda Benkirane, « Coronavirus, couronnement des sociétés sécuritaires », Politis, 12 juin 2020 : https://www.politis.fr/articles/2020/06/coronavirus-couronnement-des-societes-securitaires-42024/

 

إن الأزمة الصحية التي سببها وباء “كوفيد-19” (Covid-19) هي جزء من سلسلة من الأحداث العالمية التي وَلَّدت الصدمة والذهول – من أحداث 11 شتنير 2001 والانتفاضات الاجتماعية بين 2011-2019 وصولاً إلى الانهيار المالي لعام 2008 ثم حادث فوكوشيما النووي سنة 2011. وعلى الرغم من حالة عدم اليقين التي خلقها فيروس كورونا المستجد، فمن المحتمل أن الضرر الجانبي الرئيسي هو المواطَنة، والتي تُكرِّس تداعياتها السياسية سيرورةً مستمرةً من تراجع الحريات الفردية. إن “Covid-19” هو اسم فيروس لكنه أيضًا مُحفِّز أدَّى إلى سيطرة هائلة على السكان عالمياً.

إذا وضعنا هذا الوباء في سلسلة الأزمات الصحية الأخيرة، مثل فيروس نقص المناعة البشري  (AIDS) وفيروس الإنفلونزا إتش 1 إن1 (H1N1)، فمن الواضح أن هذا الوباء في حد ذاته أقل من إجراء فرض الحجر الصحي وعواقبه التي تعطي هذه الأزمة تفردها وتعقيدها. يجرنا هذا الأمر إلى البعد السياسي والجيو-سياسي هذا الوباء، وهو النقاش الذي يذكرنا بما عقِب التهديدات الإرهابية. يُقدَّم فيروس “Covid-19″على أنه شر متطرف وخانق تم الدخول في “حرب” ضده، دون إعطاء أقل “الأسلحة” الدفاعية، أو على الأقل إنتاج عدد من الأقنعة الواقية للسكان خلال الحجر الصحي. بشكل عام، فإن الحجر الصحي إلى أجل غير مسمى، وبدون حماية حقيقية لا يغير في شيء على طريقة القرون الوسطى.

من هذا المنظور، لا يسعنا إلا أن نلاحظ هشاشة الأنظمة الصحية في البلدان الأكثر ثراءً، حيث تنفجر التكاليف وتضعف الطاقة الاستيعابية للبنية التحتية الاستشفائية، وحيث عدد الوفيات هو الأكثر إثارة. إن تصنيف الوفيات حسب البلد يَقلِب التصنيف العالمي للدول أكثر تقدماً اجتماعياً واقتصادياً. وفي النظام العالمي الجديد “ما بعد غربي” الذي يتسم بانهيار القيادة، فالولايات المتحدة هي المتضرر الأكبر من هذه الأزمة، تليها الدول الأوروبية التي انتشر فيها الفيروس بأعداد كبيرة. لكن، في كل مكان تقريبًا – باستثناء دول مثل السويد وهولندا وألمانيا وسويسرا – تم وضع سياسة استبدادية في خضم مواجهة الوباء.

أدى هذا الفيروس، في معظم البلدان، إلى تقويض المواطنة، وقد شكل الوباء بالنسبة للعديد من القادة الاستبداديين فرصةً لكسب المصداقية، بالأخص عندما تم تقدير “قبضتهم الحديدية” أثناء إجراءات فرض الحجر الصحي. وقد أدى ذلك بدول مختلفة إلى ممارسة العنف عن طريق جهاز الشرطة، وهو عنفٌ تم تسجيله وتصويره ونشره على شبكات التواصل الاجتماعي لكن بقي دون عقاب، بالإضافة إلى اعتقالات تعسفية، بل وحتى عمليات قتل في حق شباب الأحياء غير المحظوظة.

لقد أظهر ميشيل فوكو في “المراقبة والعقاب” (1975) كيف تم تطوير “المجتمعات المنضبطة” (les sociétés disciplinaires)، بدءً من “الحجر الاجتماعي” الذي تم إنشاؤه إبَّان أوبئة الطاعون. انطلاقاً من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، وُلدت جميع أنواع الشبكات والفحوصات والقياسات وتدريب “الأفراد النافعين والمفيدين” في منطق وبيئات من الحجز المُعمَّم: المستشفى، الجيش، المصنع، المدرسة، مدرسة داخلية، سجن. تتم عملية صقل هذه المجتمعات عن طريق هندسة بانوبتيكية (architecture panoptique)، تجعل من الممكن أن تُرى دون أن تتم رُؤيتك بُغية مراقبة تلقائية للأفراد. في نفس السياق، أعلن جيل ديلوز سنة 1987 عن ظهور “مجتمعات المراقبة” (les sociétés de contrôle)، مجتمعات حيث يقوم الاتصال والمعلومات بشكل أساسي على توزيع “الأوامر” فقط. لقد تنبأ دولوز بأن “أولئك الذين يعتنون بخيراتنا لم يعودوا بحاجة إلى بيئات للحجر”، لأنه بات من الممكن الآن التحكم في كل شيء في مجال مفتوح. والآن، بعد الانضباط والسيطرة، حان وقتُ “المجتمعات الأمنية” (les sociétés sécuritaires) العاملة على التحكم الهائل والمراقبة والتحكم عن بعد في أكبر عدد من الأفراد.

في القرن الحادي والعشرين، أضحى الأمن سياسة وطنية ودولية، ورؤية شاملة وبانوبتيكية، بل وباتت حِرف هذه السياسة وأجهزتها ومناهجها تفرض نفسها في العلوم الإنسانية والاجتماعية. لكن الأمن ما هو إلا الاسم الآخر للشرطة، في حين الإستخبارات هي الجانب الآخر للمعلومة. إن الأمن وانعدام الأمن متكافئان في نظام الحَوْكَمَة الذي ينشر ويخشى الخوف من مخاطر الفيروسات (الإرهاب، التطرف، الإسلاموية، المهاجرين، اللاجئين، إلخ.). في يومنا هذا، إن الحفاظ على الأمن، بأي ثمن، هو الأولوية الأولى، وله الأسبقية على الرخاء، والقدرة على البقاء، والتضامن، والحرية، والتنمية وحقوق الإنسان. يسمح الاستدلال بالخوف بتجاوز ضرورة استشارة المواطنين دون الحاجة إلى تقديم ميزانية المحاسبة الخاصة بالاقتصاد السياسي للـ “حروب”، أو الوقوف عند الأخطاء الإستراتيجية، أو الأضرار الجانبية والعمى التجريبي لهذا الاقتصاد.

إن التعبئة ضد هذا العدو الفيروسي الشامل هو تكرار عام مَكَّن من وضع أجهزة تهدف إلى تعقب تفاصيل الأفعال والإيماءات لاتصال الفرد. كونهم محرومين من البيانات التي ينتجونها في اليومي من قِبل عمالقة الرَّقمي الأربع أو الخمس، يرى المواطنون أن المعلومات المتعلقة بحالتهم الصحية، وأمراضهم المزمنة أو الخلقية تصبح رهاناً لاستيلاءٍ جديد؛ فبياناتنا تتجسس علينا وتقيدنا.

تعمل كلاً من قاعدة البيانات الضخمة (Big Data) وشكرات الأدوية الكبرى (Big Pharma) معًا على تجريدٍ مُبرمَجٍ لاستغلال الودائع التي ستزيد من الإثراء الهائل للفئة الأقل عدداً. مرحبًا بك في العالم الحقيقي حيث يمتلك 1٪ من الأشخاص أكثر مما تملكه نسبة 90٪ من سكان العالم (تقرير 2020 للمنظمة غير الحكومية أوكسفام “Oxfam”).

يمكن لأزمات المستقبل، الأكثر شدة، أن تمحو المواطنة لصالح البرمجة العقلية والسلوكية   للأفراد البشريين، حيث يتم بلا رحمة، وباسم الأمن، قمع التفكير، والاختلاف، والاحتجاج، والمقاومة. إن أسانج وسنودن والمبلغون عن الخطر هم ضحايا الطاعون في هذه المجتمعات الأمنية، والتي ينتهي فيها الأمر بالرجال ليكونوا “حشرات اجتماعية” مثل الآخرين. بالتالي، يفرض الأمن والتحكم الضخم والمراقبة عن بعد للجماهير حالة من الارتباك، بل ويحافظ عليها، وهو السياق الذي قام فيه روسو، في كتاب “العقد الاجتماعي” (1762)،  بالقول بأن هناك: “فرق كبير بين الخضوع للجمهور وحكم المجتمع”.

Les commentaires sont fermés